الأمن المجتمعي في العلاقات الدولية
الأمن المجتمعي
من الأمن القومي إلى الأمن المجتمعي
تشترك جميع دول العالم في نشدان الأمن الذي هو مطلب عام بقصد مواجهة الأخطار والتهديدات وجاءت من الداخل أو الخارج، وعلى استنباط الخطط الضرورية للدفاع عن كينونتها والمحافظة على بقاءها، إلى أن تطورت هذه المجتمعات لتصل إلى أرقى حالاتها إلى ” الوحدات السياسية” أو الدول كما هي معروفة بكل تعقيداتها وتداخلات عناصرها وتطور معها الهاجس الأمني إلى مفهوم الأمن القومي.
وتضاعف استحضار هذا المفهوم على أن القوة العسكرية ليست الأمن القومي، وأصبح يمارس في أدبيات السياسة نظريا وعمليا لا سيما في الساحة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية بالنظر لما اتسمت به هذه الحرب من شمولية وما استوجبته من تعبئة للجيوش وطاقات الأمة كافة.
واكتسب الأمن القومي بروزا بعد أن قدمت الولايات المتحدة الأمريكية عام 1947 تحقيقات الكونغرس من أن فقدان التنسيق كان أحد أسباب كارثة ( بيرل هاربور) على إنشاء ” مجلس الأمن القومي.
يشمل الأمن العسكري الأمن في جميع موارد الأمة وقطاعاتها الأخرى أو ما يمكن تسميته مكوناتها الأساسية: الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية ويهدف بالتالي إلى استخدام الأمثل لهذه المكونات لسبيل تمكين المجتمع من حماية الذات وصون السيادة.
وإذا كان للأمن معنى أشمل من القوة العسكرية، بحيث يعني مجموعة التصرفات أو القدرة التي يسعى بها المجتمع إلى حفظ حقه في البقاء.
يرى ‘هنري كسنجر’ أن القوة العسكرية هي التي تحدد مكانه الدولة ونفوذها السياسي في العالم، ولعل ابرع الدبلوماسيات نفسها عاجزة إذا لم تكن مدعومة بقوة عسكرية “ومن ناحية أخرى لا يعد الأمن هو أفضل المصطلحات للتعبير عن الأمن القومي للدولة المعاصرة، ومن ناحية أخرى لم يتبلور المفهوم لكي يصير حقلا علميا داخل علم السياسة تطبق عليه قواعد نظرية المعرفة، بدءا من وضع الفروض وتحديد مناهج البحث الملائمة واختيار أدوات التحقق العلمي وقواعد الإثبات والنفي وإمكانية الوصول إلى نظرية عامة والوصول إلى قانون يحكم ظاهرة الأمن القومي.
ويعتبر “روبرت ماكنامارا” أن الأمن مرادفا للتمنية الشاملة لأن أي دولة لا تستطيع في أغلب الأحيان بناء قوة عسكرية رادعة وبالتالي امتلاك القدرة على تعزيز أمنها القومي يكون على درجة كافية من النمو والتطور، حيث قال في كتابه ” جوهر الأمن 1968″: “الأمن هو التنمية وليس توافر المعدات العسكرية وإن كان يتضمنها…الأمن ليس النشاط العسكري التقليدي وإن كان يشمله…بدون تنمية لا يوجد أمن.
وضع في عام 1944 ميثاق جامعة الدول لعربية وأنشأت على أساسه في مارس عام 1945 ولم يذكر مصطلح الأمن القومي، وإنما مسألة الضمان الاجتماعي ضد أي عدوان يقع على أية دولة عضو في الجامعة سواء دولة خارجية أو دولة أخرى عضو بالجامعة (المادة السادسة من الميثاق).
كما أن معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي بين الدول الأعضاء في الجامعة والموقعة عام 1950 قد أشارت إلى الأمن والاستقرار ولم تُشر إلى الأمن القومي كما أشارت إلى الدفاع وليس الأمن القومي ونصت المادة الثانية منها على مسألة الضمان الاجتماعي وحثت الدول الأعضاء على ضرورة توحيد الخطط والمساعي المشتركة في حالة الخطر الداهم كالحرب مثلا.وكافة مشروعات تطوير ميثاق جامعة الدول العربية تؤكد على النص على مسألة الأمن القومي العربي.
الأمننة ونزع الأمننة
الأمن المجتمعي أو الاجتماعي: ويخص قدرة المجتمعات على إعادة استنتاج أنماط خصوصياتها في اللغة: الثقافة، الهوية وفق تصور مقبول في موجهة الانكشاف حيث ظهر هذا في إسهامات مدرسة كوبنهاجن التي وضحت كيف تصير قضية ما مشكلة أمنية(securitization) ويقول “ويفير”: أن مسألة اجتماعية تصبح رهانا أمنيا محدد السلوك بالممارسة الاستدلالية الاستطرادية للعاملين الاجتماعيين، إذ بفضل قوة صيغة مضمون الكلام يتم تقديم رهان اجتماعي يتعلق ضمنيا أو صراحة بالأمن، وبالتالي يحصل على معالجة غير معتادة مقارنة بالرهانات الاجتماعية التي تبقى خاضعة لمعالجة سياسية روتينية، وبالتالي لكتاب مدرسة كوبنهاجن ليس الأمن موضوعيا.وإنما بناء اجتماعي وكما لاحظ ” بوزان ” أنه لا أحد ينكر تأثر النخب بمحيطها الاجتماعي والسياسي.
والأمن المجتمعي قدرة المجتمع وإطاره النظامي الدولة على مواجهة كافة التهديدات الداخلية والخارجية بما يؤدي إلى محافظته على كيانه هويته وإقليمه وموارده وتماسكه وتصوره وحرية إرادته.
وهذا المفهوم (الأمن) لا يتعلق بحالة معينة لنخبة أو طبقة أو جماعة عرقية أو لغوية مسيطرة على صناعة القرار وإنما يتعلق بكل المجتمع الذي إطاره النظامي الدولة والتي يمارس من خلالها هذا المفهوم، ومن ثم يتطلب تعاون مشترك للمجتمعات لإدراك مصادر المخاطر وطبيعتها وأهدافها.
وهذا المفهوم هو مفهوم لأمن مركب، يحتوي على العديد من المتغيرات التي تتفاعل مع بعضها البعض، فنجد المتغيرات العسكرية الاجتماعية والسياسية، والاقتصادية والثقافية، فالمتغيرات الاقتصادية تحتل أهمية خاصة في هذا المفهوم وتؤدي صدر المتغيرات المستقلة والظاهرة السياسية بعناصرها وتطبيقها دور المتغيرات التابعة.
ترى مدرسة “كوبنهاغن” أن أحد أكبر مصادر اللا أمن مجتمعي، يتمثل في المعضلة الأمنية المجتمعية وأن التعريف الاساسي للمشكلة الأمنية شيء يمكن أن يقوض النظام السياسي داخل الدولة، وبالتالي “تغيير الأماكن لجميع المسائل الأخرى”.كما يبين بوزان، محاولة تعميق الأمن في موضوع كـا “التحرر من التهديد” سواء بصورة موضوعية وذاتية، فعندما تقوم مجموعة ما بمحاولة زيادة أمنها المجتمعي، تتسبب في رد فعل في الجماعة الثانية، بحيث هذا الأخير ينقص من الأمن المجتمعي للجماعة الأولى، وهذا ما يُحدث المعضلة، وينتج سلوكا شبه إبادي تجاه الجماعات الاخرى.
الأمننة:
أصبحت نظرية الأمننة برنامج بحث قيادي في الاجندة البحثية لمدرسة كوبنهاجن، وإضفاء الطابع الأمني يستند علي فكرة أن الأمن أولا: ممارسة ذاتية وأن تعريف التهديد لا يقتصر فقط علي الجوانب المادية الملموسة مثل السلاح وسلوك الاعتداء وغيرها
وثانيا: ممارسة خطابية أي ان اعتبار فاعل معين في التهديد يعود إلى طريقة التعامل والتفاعل مع طرف الفواعل الأمنية للقضية.
وشرحت مقاربة الأمننة بوضوح في كتاب الأمن 1998: قضية التهديد الوجودي، والأمننة هي “التحرك الذي يجعل السياسة تتجاوز الوضع العادي لقواعد اللعبة.” (بوزان &وايفر & دي وايلد)
ويكتب “أولي وايفر”في الأمننة:
ما هو الأمن؟ بمساعدة نظرية اللغة والتي يعتبر الأمن فعل خطابي ليس كإشارة إلى شيء ملموس وانما اعتبار الكلام هو الفعل.
كما يشير “أولي وايفر”الى تعريف الأمننة علي أنها إعطاء الصفة الأمنية إلى قضية لم تكن تعتبر كقضية أمنية.
الأمننة: تعريف بعض الفواعل والقضايا كتهديدات أمنية بالرغم من أنها لم تكن كذلك قبل التكلم عنها بطريقة أمنية ، وفي هذا الصدد يقول “Jorg Monar” الانتقال من مستوى المناقشة السياسية الروتينية إلى وضع ومنزلة خاصة يصبح فيها لفاعل معين الشرعية المطلقة في استخدام سلطات القوة والضغط في مواجهة التهديد
وما يميّز الأمننة هي وصف قضية أمنية علي موضوع ما، وإعطاء الشرعية للوسائل والاجراءات الخاصة التي لا تستخدم عادة في الاوضاع السياسية العادية، للتعامل مع القضية الأمنية.
كما يمكن أن تعّرف على أنها ” المسار الذي يمكن من خلاله لفاعل ما أن يعلن مسألة محددة أو فاعل آخر على أنه يشكل تهديدا فعليا لوحدة مرجعية معينة.
والأمننة من المفاهيم التي تستخدم عند التعامل مع المسائل الأمنيةٌ، وهو يشٌير إلى عملية تحويل مسألة عادية إلى مشكلة أمنية وجعلها تبدو كتهديد للوجود، بعبارة أخرى الأمننة هي تقديم مسألة اجتماعيةٌ وسياسية كمشكلة أمنية، وبالتالي جعلها تحت سلطة موظفين لا يتحملون أي مسؤولية سياسية
والمفهوم الذي نطلق عليه تهديدٌا ونجعل منها مسألة أمنية لا ينتج نفسه بنفسه ولا يوجد بشكل موضوع مستقل في العالم الخارجي، فالتهديدٌ جزءٌ من عملية بناء الهوية، ويؤٌدي دورًا حاسما في إنتاج التعارض بيننا وبين الآخر، وبهذا تصبح التهديدات نتاجا لعملية بناء اجتماعي
وفقا للنظريةٌ البنائيةٌ، هناك علاقة بناء اجتماع متبادل بين الأمننة، الثقافة، والهويةٌ.بهذا المعنى يمكن القول بأن كل ثقافة تخلق شكوكا، مخاو فَ، وتهديدات خاصة بها، فهي ليست طبيعية، ولكنها نتاج اجتماعي وثقافي.فالدول تستخدم الأمننة كأداة سياسية من أجل إضفاء الشرعيةٌ على سياٌساتها وخلق شكل من أشكال العبودية الطوعية داخل المجتمع
ووصف الدكتور امحند برقوق الأمننة بانها مفهوم مركب لسببين الاول: الأمننة مفهوم مشتق من عملية بناء تصور لأمن يجمع بين حاجات الإنسان وحاجات السلم والأمن الوطني، والسبب الثاني: مفهوم الأمننة من حيث توسيع فكرة الأمن كما جاءت بها المقاربة النظرية لمدرسة كوبنهاجن
وبالمقابل طرح “بوزان” الخطاب السياسي السلطوي الذي يقوم علي تضخيم المخاطر الناجمة عن استمرار ظاهرة اللجوء وتبعاتها علي الأمن الاقليمي والدولي بسبب الانفلات الأمني المحتمل جراء تهريب الاسلحة مثلا
عند مقارنة نظرية الأمننة مع الفعل الاجتماعي الغير محدد تصبح الأمننة تشبه الفعل التقريري الشامل حول العلاقة بين العدو والصديق في الدراسات الأمنية، تأخذ منظومة التشابه لكارل شميت في جعل النظام السياسي كالمقرر الاستثنائي الذي يشكل الحدود بين الصديق والعدو ؛ وفي هذا الإطار، جوهر السياسيين يتضمن تكوين القرار حول العدو: “كل الأشكال النقيضة، الدينية والأخلاقية والاقتصادية، او غيرها تتحول إلى نقيض سياسي اذا كانت قوية لتجميع البشر فعليا وفقا للصديق والعدو”.رغم أن شميت لا يمكنه ان ينكر ان الجماعات تتنافس فيما بينها في المجالات الاقتصادية والقانونية والأخلاقية، حيث يدعي ان المعارضة السياسية بين الصديق والعدو يشكل اكثر الانقسامات تطرفا: “الخصومة السياسية هي الأشد والأكثر تطرفا، وتصبح كل خصومة ملموسة وتصبح اكثر سياسية وأوثق صلة بها وهي تقترب من النقطة الاكثر تطرفا، وهو التجمع “الصديق – العدو
وهناك عدد من الانتقادات بشأن مفهوم الأمننة، مثلا: قضية المسؤولية السياسية مع غياب المقاربات الأخرى غير الخطابية، والاشكال المؤسسية.، والأهم هو النظر إلى الفكرة القائلة بأن قضية يمكن تحويلها من السياسة العادية إلى تلك التدابير العاجلة، ومن ثم امكانية “نزع طابعها الأمني”.
طالع ايضا : الصيرفة الإسلامية بديل للصيرفة البنكية الربوية